فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزلَ عَلَيْه آيَات منْ رَبه}.
لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم، وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقًا للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى، وهذا من جلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينتصب للمعاندة معهم فهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات.
وقد قدمتُ بيان هذا الوهم عند قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آيات من ربه} في سورة [الأنعام: 37].
ومعنى {عند الله} أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه.
وأفادت {إنما} قصر النبي عليه الصلاة والسلام على صفة النذارة، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربه، فهو قصر إفراد ردا على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة.
والمعنى: أنه لا يُسَلم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم.
وخُص بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضًا بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر.
والمبين: الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب: {ءايات}.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف: {ءاية}.
والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس، فالآية الواحدة كافية في التصديق.
{أَوَلَمْ يَكْفهمْ أَنا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتَابَ يُتْلَى عَلَيْهمْ إن في ذَلكَ لَرَحْمَةً وَذكْرَى لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ (51)}.
عطف على جملة: {قل إنما الآيات عند الله} [العنكبوت: 50] وهو ارتقاء في المجادلة.
والاستفهام تعجيبي إنكاري.
والمعنى: وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية.
ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله.
و{الكتاب} القرآن، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء.
وجملة: {يتلى عليهم} مستأنفة أو حال، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع.
واختير المضارع دون الوصف بأن يقال: متلوًا عليهم، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار، فحصل من مادة {يُتْلَى} ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة.
وقد أشار قوله: {يُتْلى عليهم} وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات.
المزية الأولى: ما أشار إليه قوله: {يُتْلى عليهم} من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة، فهو يتلى، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة.
المزية الثانية: كونه مما يُتلى، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالًا مرئية لأن إدراك المتلو إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية.
المزية الثالثة: ما أشار إليه قوله: {إن في ذلك لرحمة} فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب {يتلى عليهم} فالإشارة ب {ذلك} إلى {الكتاب} ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم.
وتنكير رحمة للتعظيم، أي لا يقادَر قدرها.
فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم، فالقرآن مع كونه معجزة دالةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضًا وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها.
المزية الرابعة: ما أشار إليه قوله: {وذكرى} فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقًا.
المزية الخامسة: أن كون القرآن كتابًا متلوًا مستطاعًا إدراك خصائصه لكل عربي، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أئمة العربية، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى: {يا أيها الساحر} [الزخرف: 49] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر: {وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} [القمر: 2] ، فأشار قوله: {يعرضوا} إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية.
وعُلق بالرحمة والذكرى قوله: {لقَوم يؤمنون} للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها.
واستحضار المؤمنين بعنوان: قوم يؤمنون دون أن يقال: للمؤمنين، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلمًا وعلوا، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال.
وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها.
{قُلْ كفى بالله بَيْنى وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا يَعْلَمُ مَا في السماوات والأرض}.
بعد أن ألقمهم حَجر الحجة الدامغة أمر بأن يجعل الله حكَمًا بينه وبينهم لما استمر تكذيبهم بعد الدلائل القاطعة.
وهذا من الكلام المنصف المقصود منه استدراج المخاطب.
و{كفى بالله} بمعنى هو كاف لي في إظهار الحق، والباء مزيدة للتوكيد وقد تقدم نظيره في قوله: {وكفى بالله شهيدًا} في سورة [النساء: 79].
والشهيد: الشاهد، ولما ضُمن معنى الحاكم عدي بظرف {بيني وبينكم}.
قال الحارث بن حلزة في عمرو بن هند الملك:
وهو الرب والشهيد على يو ** م الحيَاريْن والبلاء بلاء

وجملة: {يعلم ما في السماوات والأرض} مقررة لمعنى الاكتفاء به شهيدًا فهي تتنزل منها منزلة التوكيد.
{السماوات والأرض والذين ءامَنُوا بالباطل وَكَفَرُوا بالله أولئك}.
بعد أن أنصفهم بقوله: {كفى بالله بيني وبينكم شهيدًا} استمر في الانتصاف بما لا يستطيعون إنكاره وهو أن الذين اعتقدوا الباطل وكفروا بالله هم الخاسرون في الحكومة والقضية الموكولة إلى الله تعالى؛ فهم إن تأملوا في إيمانهم بالله حق التأمل وجدوا أنفسهم غير مؤمنين بإلهيته لأنهم أشركوا معه ما ليس حقيقًا بالإلهية فعلموا أنهم كفروا بالله فتعين أنهم آمنوا بالباطل فالكلام موجه كقوله: {وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] ، وقول حسان في أبي سفيان بن حرب أيام جاهليته:
أتهجوهُ ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء

وفي الجمع بين {ءامنوا} و{كَفروا} محسن المضادة وهو الطبَاق.
والباطل: ضد الحق، أي ما ليس بحقيق أن يؤمن به، أي ما ليس بإله حق ولكنهم يدعون له الإلهية وذلك إيمانهم بإلهية الأصنام.
وأما كفرهم بالله فلأنهم أشركوا معه في الإلهية فكفروا بأعظم صفاته وهي الوحدانية.
واسم الإشارة يفيد التنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف التي ذكرت لهم قبل اسم الإشارة مثل: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
والقصر المستفاد من تعريف جزأي جملة {هم الخاسرون} قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران العظيم بحيث إن كل خسران في جانب خسرانهم كالعدم؛ فكأنهم انفردوا بالخسران فأطلق عليهم المركب المفيد قصر الخسران عليهم وذلك لأنهم حقت عليهم الشقاوة العظمى الأبدية.
واستعير الخسران لانعكاس المأمول من العمل المُكد تشبيهًا بحال من كد في التجارة لينال مالًا فأفنى رأس ماله، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فما ربحَتْ تجارتهم} [البقرة: 16]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزلَ عَلَيْه آيَات منْ رَبه} أي: بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى، وسبق أنْ قلنا: إن الحق سبحانه كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا، فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز مقتدر.
واقرأ مثلًا قوله سبحانه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصرَةً فَظَلَمُوا بهَا} [الإسراء: 59] فلما كذبوا بالآية التي طلبوها أهلكهم الله؛ لأن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع، إنما هي الإصرار على الكفر، إذن: فطلب الإنزال لآية خاصة باقتراحهم ليس مانعًا لهم أنْ يكفروا أيضًا برسول الله.
لذلك يقول سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نرْسلَ بالآيات} [الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها {إلا أَن كَذبَ بهَا الأولون} [الإسراء: 59] وحين تنزل الآية ويُكذبون بها تنزل بهم عقوبة السماء، لكن الحق- سبحانه وتعالى- قطع العهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ألا يُعذب أمته وهو فيهم، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الله ليُعَذبَهُمْ وَأَنتَ فيهمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفرُونَ} [الأنفال: 33].
فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الآية المقترحة، ثم إن الآيات المقترحة آيات كونية تأتي وتذهب، كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة، ثم ينطفئ، رآه مَنْ رآه، وأصبح خبرًا لمن لم يَرَه.
وكلمة {لَوْلاَ} [العنكبوت: 50] تستخدم في لغة العرب استخدامين: إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية مثل: لولا زيد عندك لَزرتُك، وهي هنا حرف امتناع لوجود، فقد امتنعتْ الزيارة لوجود زيد. وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل: لولا تذاكر دروسك، فهي للحض وللحث على الفعل.
فقولهم {لَوْلاَ أُنزلَ عَلَيْه آيَات من ربه} [العنكبوت: 50] كان الآية التي جاءتهم من عند الله لا يعترفون بها، ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون: {لَوْلاَ نُزلَ هذا القرآن على رَجُلٍ منَ القريتين عَظيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن: أنتم معترفون بالقرآن، مقتنعون به، لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين الناس جميعًا. ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضًا، ويعترفون من حيث لا يشعرون بأن محمدًا رسول الله حينما قالوا: {لاَ تُنفقُوا على مَنْ عندَ رَسُول الله حتى يَنفَضوا} [المنافقون: 7] فما دُمْتم تعرفون أنه رسول الله، فلماذا تُعادونه؟ إذن: فالبديهة الفطرية تكذبهم، ينطق الحق على ألسنتهم على حين غفلة منهم.
ويرد الحق تبارك وتعالى عليهم: {قُلْ إنمَا الآيات عندَ الله} [العنكبوت: 50] فهي عند الله، ليست عندي، وليست بالطلب حسب أهوائكم {وَإنمَآ أَنَا نَذير مبين} [العنكبوت: 50] أي: هذه مهمتي، واختار الإنذار مع أنه صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، لكن خَصهم هنا بالإنذار، لأنهم أهل لجَاج، وأهل باطل وجحود، فيناسبهم كلمة الإنذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفهمْ أَنآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب}.
والاستفهام هنا للتعجب وللإنكار، يعني: كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العبر والعجائب؟ إذن: هم يريدون أنْ يتمحكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حَق باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به.
وقوله تعالى: {يتلى عَلَيْهمْ} [العنكبوت: 51] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أُنزل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ.
ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يُعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله: {سَنُقْرئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
وإلا، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حفْظًا أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلًا، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى.
ثم يقول سبحانه: {إن في ذلك لَرَحْمَةً وذكرى} [العنكبوت: 51] لكن لمن {لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} [العنكبوت: 51] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه؛ لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته.